الحمد لله، و الصلاة و السلام على نبيّه سيدنا محمد المصطفى، وعلى آله و صحبه و من والاه .
وبعــــد:
هذه ترجمة موجزة وتعريف بفضيلة شيخنا الإمام العارف بالله: سيدي محمد زكي إبراهيم رائد العشيرة المحمدية، وشيخ الطريقة المحمدية الشاذلية، رحمه الله تعالى رحمة واسعة . أكتبها بما لزمته وأخذت عنه وخبرت علمه وفضله عن قرب ؛ وما أنا ذاكره هنا ما هو إلا قليل من كثير، وغيض من فيض، من غيرمبالغة ولا تهويل.
وقد نشرت هذه الترجمة بمجلة الأزهر الغراء عقب وفاة شيخنا رحمه الله مباشرة ثم نشرت عدة مرات بمجلة المسلم، وقد زدت فيها هنابعض الزيادات الضرورية النافعة، والله تعالى من وراء القصد، وعلى الله قصدالسبيل .
وقد شرعت في كتابة ترجمة موسعة لشيخنا رحمه الله تعالى،تتناول تفصيل جوانب من حياته وفكره ومعارفه، أسأل الله التوفيق لإتمامها،عسى أن يؤدي ذلك شيئاً من حقه الواجب علينا رحمه الله تعالى .
وإنالعبرة من الترجمة الاقتداء والاستفادة، فلعل قارئ هذه الترجمة أن يصيب منعلو الهمة ونفوذ العزيمة ما ينفع به نفسه والناس، ولعله يجد فيها فكرة أوهدفاً فيشمر عن ساعد الجد في تنفيذها، أو الوصول إلى هدفه .
- مولده ونشأته:
هوشيخنا وأستاذنا الإمام الفقيه المحدث الشاعر، بقية السلف الصالح: محمد زكيإبراهيم، رائد العشيرة المحمدية، اسمه: محمد، ولقبه: زكي الدين، وكنيته:أبو البركات، شريف حسيني أباً وأماً .
ولد رحمه الله في القاهرة بمنزل والده بحي بولاق أبو العلا، وتاريخ مولده حسب ما هو مدون في أوراقه الرسمية 22/8/1916م، فيكون قد قضـى من العمر في هذه الحياة الدنيا 82عاماً، إلا أن عندي من الأسباب العلمية والتاريخية ما يجعلني أؤكد أنالشيخ رحمه الله قد ولد قبل هذا التاريخ بنحو عشر سنوات تقريباً، ثم تأكدلي ذلك تماماً فرأيت بخط شيخنا رحمه الله أن مولده كان في 22/8/1906م،فيكون عمره الفعلي (92) عاما، قضاها في جهاده ودعوته، في علم وعمل .
ووالدالشيخ هو العالم الأزهري الشيخ إبراهيم الخليل بن علي الشاذلي، صاحب كتاب(المرجع: معالم المشروع والممنوع من ممارسات التصوف المعاصر)، وله سلسلةمقالات نشرت في جريدة الإخوان سنة 1932 م، كما أن له بعض المقطوعات من الشعر الروحي الرائق، وقد جمعتها مع نبذة عن حياته وطبعت في رسالة مطبوعة .
وجَدّالشيخ لأمه هو الشيخ محمود أبو عليان، أحد شيوخ الطريق العلماء المجددين،تتلمذ على يد الشيخين الجليلين الشيخ حسن العدوي الحمزاوي، والشيخ عليش شيخ مالكية عصره، وقد أثنى عليه ومدحه وترجم له الدكتور عبد المنعم خفاجي في كتابه عن التصوف .
تـخــرجـه في الأزهــر:
نشأ شيخنا فيهذا الجو العلمي الصوفي الأزهري مما كان له أكبر الأثر في تكوينه العلميوالروحي، فتلقى العلم ابتداءً على يد والده، وحفظ القرآن على يد الشيخ جادالله عطية في مسجد السلطان أبي العلاء، والشيخ أحمد الشريف بمسجد سيدي معروف، وكان حينئذ ما بين التاسعة والعاشرة من عمره .
ثم التحق بمدرسة( درب النشارين الابتدائية)، وكان الابتدائي حينئذ يوازي المرحلةالإعدادية الآن، ثم انتقل منها إلى مدرسة ( نهضة بولاق الكبرى) وكانت من أشهر المدارس في ذلك الوقت .
ثم التحق بالأزهر الشريف فأخذ فيه المرحلةالثانوية، ثم مرحلة العالمية القديمة، وليس بين يدي الآن ما أعرف منه تاريخ تخرجه في الأزهر على وجه التحديد، وإن كانت الدلائل تحصر ذلك فيالفترة ما بين 1926 إلى 1930 م .
وقد ذكر لي الشيخ رحمه الله كيف أدى امتحان العالمية ؟! وكان ذلك في مجلس خاص معه ( وهو مسجل عندي بصوته )، فكان مما قاله رحمه الله:
"كنا يوم الامتحان نصلي الفجر في مسجد الإمام الحسين - الطالب واللجنة -،ونحضر درس الشيخ السمالوطي بعد الفجر، وكان يحضره العلماء باعتبارهم تلاميذ للشيخ، ثم ننتقل لصلاة الضحى في الأزهر الشريف، وتذهب اللجان إلى الرواق العباسي في عدة غرف، في كل غرفة لجنة، ويدخل الطالب ومعه أوراقه وكتبه التي تم تعيين الامتحان فيها، وكان رئيس اللجان الشيخ عبد المجيداللبان رحمه الله، وظللت أمام اللجنة حتَّى أذان العصر، وعند ذلك ختم الامتحان بالصلاة الشافعية (اللهُمَّ صلّ أفضل صلاة على أسعد مخلوقاتك سيدنا محمد وعلى آله .. إلخ) وكان الختم بهذه الصيغة إيذاناً بنجاح الطالب وحصوله على العالمية الأزهرية ...
وأذكر أنهم حددوا لي في علم البيان(تحقيق الخلاف بين السعد والسيد في الاستعارة المكنية) السعد التفتازاني والسيد الجرجاني .. وفي النحو باب المبتدأ والخبر، وفي التفسير آية: (هوالذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) الآية" .
هذا ملخص ما ذكره لي شيخنا رحمه الله تعالى عن امتحانه العالمية الأزهرية .
رحلة مع القرآن الكريم:
بدأت رحلة شيخنا الإمام محمد زكي إبراهيم رائد العشيرة المحمدية رحمه الله معالقرآن الكريم منذ صغره، فبدأ بحفظ القرآن الكريم مبكراً – كما ذكرت آنفاً- على يد الشيخ جاد الله عطية بمسجد السلطان أبي العلاء حيث كانت تقيم أسرته، وأتم حفظه عن ظهر قلب على يد الشيخ أحمد الشريف بمسجد سيدي معروف،وكان حينئذ بين التاسعة والعاشرة من عمره .
وفي الأزهر الشريف اعتنىبكتاب الله تعالى وتفاسيره وكتب إعرابه ومعانيه، وقراءاته، وعلومه بأنواعهوقد ظهر أثر ذلك واضحاً في حياته (خطابة وتدريساً وتأليفاً وفتوىوإرشاداً) .
فقد كان مجلس درسه رحمه الله مليئاً بفرائد الفوائدالقرآنية النادرة، قلما ذكر حادثة أو حكماً أو موعظة إلا ودليلها من كتاب الله تعالى في المقدمة، والكثير من دروسه هو شرح لآيات من كتاب اللهتعالى، ولا أنس يوماً شرح في درسه سورة (الرحمن) آية آية، فبدأ بمعنى اسمه تعالى (الرحمن) وأنه جامع لصفات الجمال والجلال، ثم ذكر أسماء سورةالرحمن، ومنها أنها تسمى عروس القرآن، ثم عرج على قصة سيدنا عبد الله بن مسعود وجهره بآيات من سورة الرحمن على أهل الشرك وعبادة الأوثان، ثم انطلقفي معاني آيات سورة الرحمن، وروى حديث الجن كلما سمعوا قول الحق (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فكانوا أحسن مردوداً من الإنس وقالوا: (لا بشيء مننعمك ربنا نكذب فلك الحمد) .. إلى آخر ما في هذه السورة من معاني عظيمةجليلة .
وكنت تجد بين ثنايا دروس فضيلة الإمام الرائد من الفوائدالعظيمة والمعاني الشاردة الجليلة، فشرح يوماً معنى قول الحق: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة) وأفاض في تاريخ البيت الحرام، ومعنى بكة ومكة ..إلخ .
ويوماًكان يشرح قول الحق تعالى: (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم) فكان مماقال: إن من رضي الله تعالى عنهم يلهمهم الإجابة فيقول أحدهم: غرني كرمك يارب، ألا ترى أنه لم يقل: ما غرك بربك الجبار أو القهار أو المنتقم .
وقدتميزت الاحتفالات الدينية التي كان يقيمها رحمه الله بأصوات الشيوخالأجلاء من الحفاظ المتقنين، أصحاب الأداء المميز، وهنا أذكر أول لقاءللقاريء الطبيب أحمد نعينع بالشيخ رحمه الله إذ بعد أن قرأ انطلق الشيخيبين للحاضرين خفايا بعض أحكام التلاوة عند حفص، ويشرح بعض وجوه القراءاتما يبهر العقول .
وكان رحمه الله تعالى يحثُّ على المحافظة على الورد القرآني اليومي، وتفصيله:
1- قراءة ما تيسر من القرآن يومياً، ولو آيات قليلة، حتى يختم القرآن، ثميبدأ فيه من جديد، وهذا شأن الحال المرتحل كما ورد في الحديث الشريف .
2- قـراءة سـورة (الواقـــعة) بـعد صلاة الفجــر، و (الرحــمن) بــعدالعـصر، و (يـس) بـعد المغـرب، و (تبارك الملك) بعد العشاء، و (الدخان)ليلة الجمعة، و (الكهف) يوم الجمعة، وقد فصل دليل قراءة هذه السور وفضلهافي كتابه (أصول الوصول) وفي غيره من كتبه رضي الله عنه .
3 - قراءةالسور والآيات ذات الخصائص، والفضل العظيم، والأجر الكبير، مما ورد فيهاأنها تعدل ثلث القرآن أو ربعه، كسورة الإخلاص، والكافرون، والزلزلة، وآيةالكرسي، وخواتيم البقرة، ونحو ذلك .
فكلُّ هذا من السنن المؤكدة،والمستحبات، والفضائل، ممَّا هو ضروري للسالك إلى الله تعالى، المترقي فيدرجات الكمال، بعد محافظته على الفرائض والواجبات، وأدائها على أكمل وجهفي أوقاتها، إذ لا بـد للسالك إلى الله من معرفة مراتب الأعمال، وأن يكون فقيهاً بالأولويات، عليماً بالضروريات، فلا يهتم بالفروع ويترك الأصول،ويقضي وقته في النوافل مع إهماله الواجبات، فيكون كمن يزين جداراً هشاً لاأساس له، يوشك أن ينهار، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وفضلاً عن اهتمام شيخنا رحمه الله بالقرآن في مجالس علمه، فقد كان رحمه الله كثير التلاوةله، يحث على مجالس تلاوته ومدارسته، فعمرت مساجده بالمجالس القرآنية تلاوةوتحفيظاً وتعليم أحكام، واهتم بالكتاتيب، وحث عليها .
وقد كتب عدة مؤلفات قيمة حول كتاب الله عزَّ وجل، منها:
1- الإسكات بركات القرآن على الأحياء والأموات، وهو مطبوع، حول الأورادالقرآنية، ومعاني الاختيار والتفضيل بين السور والآيات وهو بحث نادر،وخصائص القرآن، وفضائل بعض سوره، وانتفاع الميت به، والتداوي والرقيةوالعلاج بالقرآن .
2) حول معالم القرآن، وهو مطبوع، عبارة عن معلوماتوحقائق لا يستغني عنها عالم ولا معلِّم ولا متعلم، وثقافة قرآنية أساسية،بمنهج علمي، مع ذكر الدليل، على طريقة تجمع بين الفقه والحديث .
3)معارج البهاء الأقدس لمحات من فقه المعرفة ودرس في التوحيد من سورةالإخلاص، وقد طبع مؤخراً، حول سورة الإخلاص وفضلها وما حوته من معانيالتوحيد، جمعاً بين العقيدة والتفسير والتصوف، وعلى صغر حجم هذا الكتاب،فإن مادته العلمية متخصصة، وعبارته محققة موجزة .
4) تفسير آيات مختارة من كتاب الله تعالى، كآيات البر من سورة البقرة، وأوائل سورةالإنسان، وغيرها، وهو ما زال مخطوطاً، أسأل الله تعالى أن يوفق لطباعته .
5) لحظات التجلي، تفسير مختارات من سور القرآن،منها التوبة والحجرات، وقد فقد في حياة شيخنا رحمه الله عند نقل مكتبته كما أخبرني .
6)بحوث في لغة القرآن: وهي مجموعة من البحوث في مفردات القرآن وكلماته، ومافيها من إعجاز لغوي وتركيب فريد، وقد تطرق فيها لشيء من علوم القرآنالكريم، نشر بعض هذه البحوث بمجلة منبر الإسلام التي يصدرها المجلس الأعلىللشئون الإسلامية، وبعضها أذيع في برنامج ( لغة القرآن ) .
هذا،عدا الدراسات والبحوث والمقالات القرآنية المتناثرة بالمجلات الإسلامية،وفي مجلته (المسلم)، والتي أخص بالذكر منها بحثاً نادراً عن التفسيرالإشاري وتفاسير السادة الصوفية، وقد اتخذته عمدة في رسالتي (التفسيرالإشاري للقرآن، دراسة علمية تأصيلية )، وله بحث قيم في التداوي بالقرآن .
ومماينبغي أن يذكر - في مجال ذكر الفضل لأهله - أنَّ شيخنا رحمه الله تعالىكان من أول من نادوا بتسجيل القرآن الكريم برواية الدوري وبقية القراءات،وهذا مسجل في مجلة المسلم في وقته . وقد كان الأستاذ لبيب السعيد وكيل عاموزارة الأوقاف وأمين العشيرة المحمدية الثقافي وقتها هو أول من سجل تلاوةالقرآن على أسطوانات .
شيخنا ورواية الحديث الشريف:
بالإضافة إلى ماتلقاه من الفقه والتفسير والحديث وسائر العلوم الشرعية بالأزهر الشريفاهتمَّ شيخنا الإمام محمد زكي إبراهيم اهتماماً خاصاً بتلقي علم الحديث(رواية ودراية ) على يد الشيوخ الرواة المحدثين ؛ في وقت قلت فيه روايةالحديث، وأصبح رواة الحديث والمهتمين بعلومه في مصر والعالم الإسلامي قلةنادرة تعد على الأصابع .
ونجد اهتمام شيخنا رحمه الله بالحديث روايةودراية واضح المعالم في مؤلفاته، وقد نقل عنه الشيخ الحسيني هاشم والدكتورأحمد عمر هاشم في كتابهما (المحدثون في مصر) أن أكثر مؤلفاته على طريقةأهل الحديث، وانظر لذلك مثلاً رسالته في ليلة النصف من شعبان، ورسالته فيالحديث الضعيف .
وقد أجازني رحمه الله بخط يده بمروياته في الحديث والفقه والأصول واللغة ومما جاء في إجازته:
"وأخيراً .. وبالتالي وعلى الإجـمال ؛ فإنني أروي قراءة، وسـماعاً،ووجـادة، وإجازة، بالإذن الموصول والمكرر بالأثبات، والجوامع، والفـهارس،والأسانيد، والمعاجم، والمسلسلات، والمختصرات، عن أشياخي الأماجدالأكرمين: سيدي محمد حبيب الله الشنقيطي، وسيدي علوي بن عباس المالكي الحسني، وعن سيدي أحمد الصديق الغماري، وشقيـقه السيد عبد الله الصديقالغماري، وسيدي محمد زاهد الكوثري، نائب عام شيخ الإسلام بتركيا قبل الانقلاب (أي على الخلافة العثمانية) وسيدي أحمد عبد الرحمـن البنا، وسيدي الشيخ المُعمّر السيد محمد عبد الله العربي العـاقوري الليبي المصري،وسيدي الشيخ إبراهيم الغلاييني الدمشقي، وسيدي الشيخ حسن حبنكة الميداني السوري، وسيـدي الشـيـخ الببـلاوي المصـري، وسيدي الشـيخ حسنـين مخلوفالمفتي المصري، والشيخ الحسيني أبو هاشم الأزهري المصري، والشيخ المبشرالطرازي مفتي البلقان وآسيا الوسطى قبل الشيوعية، والشيخ يوسف الدجويالمصري، وسيدي الشيخ محمد بخيت المطيعي المفتي المصري، وسيدي الشيخ محمدالحافظ التيجاني، والشيخ أحمد عبد الجواد الدومي، والشـيـــخ الخـضـرحسـين المغربي مـن شـيوخ الأزهـر، والأمـيـر عبد الكريم الخطابي مجاهدالمغرب، والسيد اليمني الناصري الشاذلي المغربي المجـاهـد، والشيخ عبدالوهاب عبد اللطيف الأزهري من علماء الحديث بمصر، وبقية أشياخي ممن سبقذكر بعضهم رضي الله عنهم .. وعن والدي السيد إبراهيم الخليل بن عليالشاذلي، بأسنادهم المحررة بأثباتهم، عن أشياخهم عموماً بمروياتهم من التفسير، والحديث، والفقه، والأصول، والمنطق، والسيرة، والمصطلح، وعلمالرجـال والتوحـيد، وعـلوم القرآن، والعقائد، وفروع اللغة العربية،والثقافة العامة، والتصوف الصحيح، وخصوصاً كتب القشيري والغزالي والسهروردي وغيرهم مما أشرت إليه وما فاتني أن أشير إليه . اهـ
ولم يتصدر شيخنا رحمه الله لإعطاء الإجازة بالحديث إلاّ لنفرٍ محدود من كبارالعلماء في العالم الإسلامي، فلمّا كانت سنة 1414 هـ استجازه عدد من العلماء والطلبة فامتنع، فلمّا كثر الإلحاح عليه، طبع إجازته الحديثية،وأجاز طلابه، وكل من استجازه، وأجاز أهل عصره إجازة عامة كما هو معروف عندأهل الحديث والأثر .
وقد استجازه بعد ذلك مئات من المشتغلين بعلم الحديث النبوي الشريف، من أساتذة الأزهر وشيوخه بمصر، وأساتذة الجامعةالإسلامية والجامعات بالسعودية، وأساتذة جامعة آل البيت بالأردن، وجامعةالأحقاف باليمن، وجامعة القرويين بالمغرب، وغيرها من الجامعات العربيةوغيرها في أنحاء العالم الإسلامي والدعاة بالمراكز الإسلامية بالغرب،فأجاز الجميع حتى إنه طبع إجازته بالمرويات عدة مرات في فترة وجيزة .
العالم الأزهري الفقيه:
ولميقل اهتمام شيخنا بالفقه واللغة وبقية العلوم الأزهرية عن اهتمامه بالحديثالشريف وروايته، فقد كان رحمه الله فقيهاً لا يشق له غبار، حنفي المذهب،أخبرني رحمه الله تعالى بذلك، وأخبرني أنه يتعبد ويفتي به وبغيره من المذاهب الفقهية، حسب ما يقتضيه الدليل والمصلحة والتيسير في حدودالقواعد، وكان كثيراً ما يفتي بمذهب مالك ويمدحه، كما يفتي بمذهب الشافعي،رضي الله عنهم جميعاً .
وقد ضمن كتابه الفروع الخلافية نظرته إلىالخلاف الفقهي بين الأئمة ووجوب احترامهم جميعاً، وقد وضح ذلك تماماً فيبحوثه الفقهية وفي فتاويه . وانظر مثلاً: كتابه في الصلوات النافلة،وكتابه معالم المجتمع النسائي في الإسلام .
الشيخ والثقافـة المدنية:
وقدتعلم الشيخ رحمه الله الإنجليزية في المرحلة الابتدائية، وتعلم الفرنسيةعلى يد الأستاذ داود سليمان من أعيان أسيوط، والألمانية بالقاهرة على يدالأستاذ راغب والي، وكان مدرساً بالمدرسة الألمانية بالقاهرة، وقد ترجم الشيخ بعض قصائد الشاعر الألماني (هايني رش هايني ) من الألمانية إلىالعربية، وتعلم الفارسية على يد الشيخ محمد الأعظمي الإيراني عضو جمعيةالأخوة الإسلامية، وترجم عدداً من قصائد إقبال إلى العربية، بعضها منشوربمجلة (أبولو) .
وعندما اتهم بعضهم الشيخ بأنه شيخ أزهري ( معمم ومقفطن ) لا يدري من علوم الدنيا شيئاً إذا بالشيخ يرد عليه بما نصُّه:
"كتب إليّ كاتب، يعنفني بأنني أحبس نفسي في قمقم التصوف، وأتقوقع في صدفةالتدين المتأخر، وأعيش متخلفاً في عصور الجمود الماضية، بينما نحن في عصرتقدمي متحضر لم تعرفه دنيانا من قبل ...إلخ . والذي أحب أن يعرفه هذا الأخوأمثاله، أنني وأنا رجل معمَّم مقفطن لا أزال أثقف نفسي، وأزودها بكلثقافة من المشرق أو المغرب، باحثاً عن الحكمة، جارياً وراء الحقيقة، كلماأذنت لي صحتي وأوقاتي وقدرتي .
فكما أقرأ تاريخ الإسلام والفلسفةوتدرج المذاهب، ونشوء الفرق والنحل، وأتابع الصوفية والسلفية، وتطور تاريخ المسلمين، وأتابع أدباء العرب وقصاصيه وناقديه ومهرجيه ومفسديه .
كذلك أدرس ملامح الفن القوطي وتدرجه إلى الريسانس، إلى الكلاسيكية القديمةفالجديدة، إلى الرومانتيكية، إلى التأثرية، إلى الواقعية، إلى الرمزية،إلى الالتزامية، إلى التجريدية، حتى بيكاسوا في التصوير، وأندريه فيالأدب، واسترافنسكي في الموسيقى !! .
وأنا أقرأ لشكسبير، وبوب،وشيلي، وبيكون، وهيجل، وفلامريون، وجيته، ونيتشه، إلى سارتر، وسومرست موم،وبرتراند رسل، وأقرأ كذلك رونسار، وفارلين، ورامبو، وبودلير، وأفرق بينلوحات جنيسبورو، ورينو لدزر، وأميز في مدارس الموسيقى بين صامويل جونسون،وبوالوا، إلى كل ما يتعلق بفن المسرح والسينما ..إلخ .
فلستبـمقمقم ولا مقوقع ولا جامد، ولا متخلف بحمد الله، إنني أعيش في عصريمندمجاً فيه ثقافة ودعوة ومعاشاً، غريب عنه أخلاقاً وعبادة واتجاهاً، ولكنعلى قدر مقدور لا بد منه للدعاة إلى الله " .
هذا ما كتبه رحمهالله، مما يوضح جوانب ثقافته المدنية، التي حصل على قسط وافر منها، ومعذلك لم ينجرف مع تلك التيارات أو هذه، بل اتقى من تلك الثقافات ما تقرهالشريعة الإسلامية، ويفيده في دنياه وآخرته، واكتفى بمعرفة ( غير المفيد )من باب الثقافة فقط، أو من باب ( معرفة الشر لتوقيه ) . وقد حارب الفلسفاتالغريبة وسيء هذه المعارف والثقافات بلسانه وقلمه .
ثـناء العـلماء عـليه:
وقد ترجم لشيخنا الإمام محمد زكي إبراهيم وأثنى عليه عدد كبير من علماء مصر والعالم الإسلامي، منهم:
1)الإمام الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر في كتابه ( المدرسة الشاذلية)، ونشر لشيخنا خطاباً في كتابه " أبو مدين الغوث "، كما نشر بنفس الكتابقصيدة لأبي مدين الغوث مع شرح شيخنا لها، وقدّم له شيخنا رحمه الله تحقيقهلكتاب " المنقذ من الضلال " في طبعاته الأولى، وقرأت بخط الإمام الدكتورعبد الحليم محمود ينعت شيخنا بالعارف بالله .
2) الشيخ الحسيني أبوهاشم والدكتور أحمد عمر هاشم في كتابهما المشترك (المحدِّثون في مصر ) وقدترجما فيه لشيخنا ترجمة طيبة وافية، ذكرا فيها اهتمامه بالجانب الحديثيوأسانيده، ومؤلفاته، وطريقته في التأليف والعلم .
3) وأثنى عليهوعلى العشيرة المحمدية المحدث الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري في كتابه( سبيل التوفيق )، وفي آخر كتابه ( بدع التفاسير )، وفي غير مؤلف له، وكانبينهما مودّة عظيمة، وكان شيخنا رحمه الله تعالى ممن ثبت معه حين تنكرالنّاس له لمّا اعتقل في عهد عبد الناصر، ومكث في السجن الحربي أحد عشرسنة كاملة، وكان السيد عبد الله بن الصديق الغماري كاتباً ومفتياً بمجلةالمسلم وعضواً بمجلس علماء العشيرة المحمدية .
4) وأثنى عليه وذكرشيئاً من نشاطه في الدعوة إلى الله الشيخ الداعية أبو الحسن الندوي في عدةمواضع من كتابه المشهور ( مذكرات سائح في الشرق )، حيث زار العشيرةالمحمدية، وسمع خطبة الجمعة من شيخنا رحمه الله، وخرج معه في رحلة دعويةريفية ببعض الأقاليم المصرية، ولما كتبه الندوي في كتابه هذا أهمية خاصة،فقد وصف الجانب الدعوي والخطابة عند شيخنا رحمه الله وصفاً دقيقاً .
5)وذكره فضيلة الشيخ أحمد حسن الباقوري في كتابه ( قطوف ) الذي نشرته مؤسسةالأخبار، والذي ذكر فيه عدداً من الصوفية الأتقياء وجهادهم في نشر الدعوةوالإصلاح كالمراغنة والأدارسة والسنوسية، وذكر شيخنا الإمام الرائدكأنموذج للصوفي العالم العارف المجاهد في هذا العصر، وبين الشيخ الباقوريوشيخنا رحمهما الله رحلة كفاح وجهاد في سبيل إصلاح قوانين الطرق الصوفية.
6)ورغم ما كان بين الداعية الإسلامي الشيخ محمد الغزالي السقا رحمه اللهوبين شيخنا رحمه الله من مناظرات ومساجلات استمرت شهوراً على صفحات المسلمولواء الإسلام والأخبار إلا أنه كان دائم الثناء على الشيخ رحمه الله،عارفاً لقدره، سجل ذلك في تلك المساجلات وفي غيرها من مقالاته، وفي كتابه( الجانب العاطفي في الإسلام )، وقد كان لهما ندوات دينية مشتركة بجمعية (الشبان المسلمين العالمية ) وبعض الجمعيات الكبرى بمصر.
7) وقد أرخالدكتور عبد المنعم خفاجي في كتابه عن التصوف الإسلامي لكبار شيوخ التصوفالإسلامي فذكر منهم جدّ الشيخ لأمه الشيخ محمود أبو عليان، ثم ذكر شيخناالرائد رحمه الله في المعاصرين، وأثبت بعضاً من أفكاره في سبيل إصلاحالتصوف كفكرة الجامعة الصوفية والمكتبة الصوفية وغيرها .
العارف بالله الشيخ أحمد رضوان البغدادي الأقصري، وقد كان بينهما مودةعظيمة، ومراسلات مفيدة كثيرة مشهورة، طبع بعضها بمجلة المسلم، وقد أوصىالشيخ أحمد رضوان بأن يقوم الشيخ رحمه الله بغسله وتكفينه وتجهيزه، فكانكما قال.
هذا ما حضرني الآن، وهناك الكثير من السادة العلماء ممن أثنواعلى الشيخ أو ترجموه في كتبهم، منهم علامة الحجاز السيد علوي بن عباسالمالكي، وولده المجاهد السيد الدكتور محمد علوي المالكي، والعلامة الشيخمحمد الحافظ التجاني، والشيخ العارف بالله أبو المحاسن محمد سعد بدران،والإمام العارف الشيخ عمران الشاذلي، والسيد يوسف هاشم الرفاعي، والسيدعلي الهاشمي، وعشرات غيرهم , وفي أعداد المسلم التي صدرت مواكبة لرحيلهعشرات الكلمات لأجلة علماء الأزهر ومشايخه، وقد ترجمه مؤرخ الأزهر الدكتورمحمد رجب البيومي بمجلة الأزهر .
وظائفه ومناصبه:
بعد أن حصل الشيخرحمه الله على العالمية الأزهرية لم يجد عملاً في ذلك الوقت، حتى تقدمللتدريس بالمدارس الأميرية بمحافظة بني سويف، وظل هناك مؤدياً عمله عدةسنوات، ثم عاد إلى القاهرة مدرساً أيضاً، وظل يتدرج في وظائف التعليمالمختلفة، حتى أصبح رئيساً للسكرتارية العامة للتعليم الحر المسمىبالتعليم الخاص الآن، ثم عين مفتش قسم، وكان القسم وقتها يعني القسمالإداري .
وقد عمل أيضاً: أستاذاً ومحاضراً للدراسات العليا بالمعاهدالعالية ومعهد الدراسات الإسلامية ومعهد إعداد الدعاة، وحاضر أيضاًبالدراسات العليا في بعض الكليات الأزهرية ودورات إعداد الأئمة والوعاظوالبعوث الإسلامية .
وعمل بعض الوقت مديراً لمؤسسة ( الزفاف الملكي)، والتي سميت بعد الثورة ( مؤسسة البر الأميرية )، كما كان أميناً عاماًلجمعيات الشبان المسلمين ومرشداً دينياً، وعمل بعدة مناصب أخرى، وأخيراتفرغ لإدارة جمعية العشيرة المحمدية، ونشر فكرتها ودعوتها ومنهجها .
اشتغاله بالصحافة والمقال:
اشتغلشيخنا الإمام محمد زكي إبراهيم رحمه الله بالكتابة في الصحف والمجلاتالسيارة (الأدبية والعامة والإسلامية)، منذ أواخر العشرينات ؛ فكتب فيمجلات: الأزهر، ومنبر الإسلام، واللواء الإسلامي، وعقيدتي، والأخبار،والأهرام، والجمهورية .
كذلك كتب في: لواء الإسلام، والإسلام، والمسلم،والخلاصة، والعمل، والرسالة الإسلامية، والتصوف الإسلامي، وجريدة الإخوانالمسلمين الأسبوعية، والسياسة الأسبوعية،والنهضة الفكرية، والفجر، وأبولو.. وغيرها من المجلات .
وقد أسس شيخنا رحمه الله جماعة ( الروّاد الأوائل )، وكان يقوم بتحرير مجلتها ( التعارف ) .
واشتغلفي الخمسينات بتحرير وإدارة مجلة ( الخلاصة ) لصاحبها الأستاذ سيد مصطفى،أمين رابطة الإصلاح، ثم بتحرير وإدارة مجلة ( العمل ) لصاحبها الأستاذ عبدالعليم المهدي، ثم أسس مجلته ( المسلم ) سنة 1950 م، وقام بوضع منهجهاوتحريرها وإدارتها وتطويرها والإشراف عليها إلى وفاته رحمه الله .
وقدتنوعت مقالات الشيخ وكتاباته ؛ فكان منها المقال الديني، والاجتماعي،والتاريخي، والأدبي، والسياسي، وكان منها البحث الأكاديمي، والمقال الصحفي.
مـؤلـفـاتـه الـعـلـمـيـة:
تمتاز كتابات شيخنا رحمه الله بالبيان والوضوح، وقوة العبارة وسهولتها، وتوفر الإخلاص أعطاها روحاً هي روح من أذن له بالكلام .
وقدترك لنا شيخنا رحمه الله ثروة علمية هائلة: نحو مائة كتاب ورسالة فيالعلوم الدينية، كما ترك لنا مئات البحوث والفتاوى والمقالات والخطبوالدروس ( بعضها مكتوب وبعضها مسجل )، وقد وفقني الله لمراجعة وتحقيقوطباعة بعض كتبه في حياته رحمه الله، ثم بعد وفاته، ومن كتبه المطبوعة:
(1) أبجدية التصوف الإسلامي: عن أهم وأكثر ما يدور حول التصوف الإسلامي، فيما هو له وما هو عليه، بين أعدائه وأدعيائه .
(2) أصول الوصول: أدلة أهم معالم الصوفية الحقة من صريح الكتاب وصحيح السنة .
(3) الخطاب: خطاب صوفي جامع من الإمام الرائد إلى أحد كرام مريديه .
(4) فواتح المفاتح: الدعاء وشروطه وآدابه وأحكامه،
(5) أهل القبلة كلهم موحدون: يبين أن أهل القبلة كلهم موحدون، و كل مساجدهم مساجد التوحيد، ليس فيهم كافر ولا مشرك، وإن عصى وخالف،
(6) الأربعون حديثاً الحاسمة ردعاً للطوائف المكفَّرة الآثمة .
(7)حكم العمل بالحديث الضعيف: حول جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائلالأعمال بشرطه عند علماء الحديث، وإن الضعيف جزء من الحديث المقبول عندأهل هذا الفن .
(
مراقد أهل البيت في القاهرة: يحقق أن رأس الإمام الحسين رضي الله عنهوجثمان السيدة زينب وغيرهما من آل البيت بالقاهرة، تاريخا وواقعاً .
(9) قضية الإمام المهدي: في تأكيد أن المهدي حق، ولكن لم يأت زمانه بعد، عقلاً ونقلاً .
(10) ديوان البقايا: شـعر صوفي واجتماعي فني مـعاصر عميق .
(11)ديوان المثاني: الجزء الأول، والجزء الثاني: مثاني من الأبيات الشعريةتستغرق أغراضا مختلفة، وحكماً وتوجيهات، وآداباً وصوفيات رائعة .
(12) أمهات الصلوات النافلة: الصلوات النافلة ومسائلها وأحكامها من الكتاب والسنة .
(13) ليلة النصف من شعبان: قيامها، فضلها، الدليل الحاسم على إحيائها .
(14)عصمة النبي ونجاة أبويه وعمه: ردٌ على أقوال المنكرين، وتأكيد لعصمة النبيصلى الله عليه وآله وسلم، وحلول المشاكل المدعاة حولها بقواطع الأدلة، معبحث خاص بمعجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
(15) الإسكات بركات القرآن علي الأحياء والموتى: من الحديث النبوي .
(16) حول معالم القرآن: على طريقة المحدّثين في قضايا ومعلومات قرآنية هامة .
(17) معالم المجتمع النسائي في الإسلام: أحكام وقضايا النساء المختلفة بأسلوب علمي ميسر .
(18)فقه الصلوات والمدائح النبوية: بحث جديد في فقه السيرة من الصلوات ومدائحالشعر والنثر قـدمه للأزهـر في مؤتمر الفقه والسيرة العالمي .
ولهغير ذلك من الكتب والرسائل المطبوعة والمخطوطة، جمعتها في ثبت (فهرسة)مطبوع، وتبلغ نحو مائة كتاب ورسالة فضلاً عن المقالات والمحاضرات .
الشيخ والدعوة إلى الله:
كانشيخنا رحمه الله مثالاً للداعية الإسلامي الرشيد الذي وهب كل حياتهللدعوة، وبرغم مرضه الذي ألزمه بيته نحواً من عشرين عاماً، فإنه ما انعزلعن العالم أبداً، وما ترك عادته في الدرس والمحاضرة والدعوة، واستقبالعشرات الزوار يومياً، والرد على اتصالاتهم الهاتفية . كما كان من عادته أنيقرأ الصحف يومياً، متابعاً ما يحدث في العالم من أحداث وأفكار ودعوات،ويختار من تلك الجرائد والمجلات المقالات والقصاصات ويجمعها في أرشيف خاصحسب الموضوع ..
أسس الشيخ رحمه الله جمعية العشيرة المحمدية رسمياً سنة1930 م، لتكون وسيلته للدعوة الإصلاحية الإسلامية الصوفية، وجعل من مبادئهالاهتمام بالفرد والجماعة .
ومن أقواله: ( المجتمع فرد مكرر: إذا صلح الفرد صلح المجتمع ) .
وقدعمل أميناً ورائداً دينياً لجمعية الشبان المسلمين، والمؤتمر القرآني،وعضواً في الهيئة العليا للدعوة بالأزهر، وعضواً مؤسساً لعدد من الجمعياتالإسلامية .
ومما يحفظه التاريخ تلك المؤتمرات والندوات التي قام بهاشيخنا في السبعينات من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية، وقد شاركه شيخ الأزهرالدكتور عبد الحليم محمود الذي كان نائباً للشيخ في مجلس إدارة العشيرةالمحمدية، وكان يرأس هذه المؤتمرات فضيلة الشيخ محمد حسنين مخلوف مفتي مصرسابقاً .
وقد شارك شيخنا رحمه الله في اللجان التي أنشئت من أجل تقنين الشريعة الإسلامية، وتفريغ الأحكام الفقهية في شكل مواد دستورية ..
كماكان له الفضل في إنشاء مكتب رعاية المهتدين إلى الإسلام بالأزهر الشريف فيعهد الدكتور عبد الحليم محمود رحمه الله، وشارك في نشاط هذا المكتب، وقدأسلم على يديه عدد غير قليل ممن شرح الله تعالى صدورهم لدينه، وقد رأيتبعضهم يعلن إسلامه على يديه رحمه الله، كما لمست وعرفت كيف كان يساعد منيدخل في دين الله ممن يحتاج المساعدة علمية كانت أو أدبية أو اجتماعية،وما زال مكتب رعاية المهتدين إلى الإسلام بالأزهر يؤدي مهمته إلى الآنبصورة أو بأخرى خير قيام.
مناظرات ومساجلات علمية:
وقد كان للشيخمناظرات ومساجلات مع بعض معاصريه من الشيوخ والعلماء، ممن اختلف معهم فيالرأي، والاختلاف طبيعة بشرية، وقد كان الشيخ رحمه الله قوي الحجة، طوعالله له اللغة والبيان، كما كان ملتزماً أدب العلم والمناظرة في كل ذلك،وليس أدل على ذلك من رفضه نشر خطاب يسيء لبعضهم بخط يد ذلك البعض، وكان قدسبق إلى الله، فأبى وقال: إن حرمة الموت تمنعني من نشره وإن كان ما فيهحقاً إلا أن فيه إساءة كبيرة له .
ولعل أشهر هذه المناظرات ما كان بينهوبين الداعية الشيخ محمد الغزالي رحمه الله حول عبادة الرغبة والرهبة تلكالمناظرات التي استمرت ستة أشهر على صفحات الأخبار والمسلم ولواء الإسلام،وشارك فيها الصحفي أحمد سالم والدكتور عبد الحليم محمود والشيخ محمد خليلالهراس والشيخ محمد عبد الهادي العجيل.
ومن المناظراتوالمساجلات أيضاً ما كان بينه وبين الشيخ عبد الرحمن الوكيل، والدكتور سيدرزق الطويل، والدكتور إبراهيم هلال، والأستاذ حسن قرون وغيرهم، وفي كل تلكالمناظرات التزم الشيخ رحمه الله الأدب الصوفي الرفيع، والبحث العلميالنزيه والحجة المقنعة .
كما أنه انتقد عدداً من العلماء ورد عليهم ؛فانتقد الشيخ عبد الجليل عيسى لما كتبه في كتابه ( اجتهاد الرسول )، وردعليه في كتاب ( عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي كان أول رد علىما نشره صبحي أحمد منصور، وقد فصل المارق: صبحي أحمد منصور من الأزهر بذلكالكتاب والتقرير الذي كتبه عنه الشيخ رحمه الله .
وقد عرضت مشيخة الطرق الصوفية على الشيخ بعد وفاة الشيخ الصاوي فرفض وقال: ( ما سرني أن صرت شيخا لطبال وزمار ) .
شذرات من تصوف الإمام:
سماهبعض العارفين بالله (الشاذلي الثاني)، كما سمي أبو الحسن (الجنيد الثاني)،فقد جدد الله تعالى بالإمام محمد زكي إبراهيم التصوف عموماً، والشاذليةخصوصاً، وأحيا الله تعالى به معارف قد طويت، وعلوماً عي ميراث أهل الصلاحوالعرفان، فكان نسيجاً وحده، ومدرسة عظيمة .
تخرج في التصوف على يدوالده، الذي كان شيخ فتحه وتمكينه، وما زال يمده ويعرفه بالصالحين ويأمرهبالأخذ عنهم، حتى أصبح الإمام الشيخ محمد زكي إبراهيم مجمع أسانيد عصره فيالتصوف .
ما زال شيخه يرعاه في سلوكه، فقطع شيخنا مدارج السلوك الصوفى،وأتم مسيرة (الأسماء السبعة) ثم (الثلاث عشرة) ثم (التسعة والتسعين) حتىانتهى إلي الاسم المفرد والأعظم)، ودخل الخلوة الصغرى والكبرى مرات ..
أمره شيخه الوالد بالإرشاد في حياته، فانطلق في الطريق مجاهدا وداعياً إلى الله على بصيرة، يربي المريدين ويرشدهم .
وورثالشيخ رحمه الله مقامات شيوخه، فهو الشاذلي في روحانيته ومدده وواردهوورده، وهو أبو العباس في نورانيته واتصاله بالنبي صلى الله عليه وآلهوسلم، وهو ابن عطاء الله في حكمته وحكمه في المذهبين، وهو الشيخ زروقمحتسب العلماء والأولياء في تجديده الطريق وقمعه للمبتدعة، وهو شيخالأولياء سيدي محمد بن ناصر الدرعي في معارفه وعلومه وتشرعه، وهو ابنعجيبة في فيوضه وشروحه، بل هو صاحب جبل العلم ابن مشيش في خفائه وظهوره،بل هو أبو مدين الغوث في معارفه وشعره ونثره.
ولقد كان لسيدنا من جدهصلى الله عليه وآله وسلم الحظ الوافر، والنصيب الأتم، وما زال يتقلب فيمقامات الطريق، في زيادة من فضل الله، حتى لقي الله تعالى، نحسبه كذلك،والله حسيبه، ولا نزكي على الله أحداً .
واقرأ – إن شئت – قصيدته الأويسية، وقصيدته في القطب، وقصيدته المنبهجة، وقصيدته (صوفي عرفته فوصفته)، فإنه ما أراد بها إلا نفسه .
أما منهجه في التصوف، ومكافحته لأهل البدع والأهواء من أدعياء التصوف وأعدائه فذلك باب واسع، وأحيلك على كتبه وتصانيفه .
تـــراثـــه الأدبـــي:
شيخناسيدي محمد زكي إبراهيم من جيل الرواد الأوائل من شعراء هذا العصر، عاصرشوقي وحافظ والعقاد والرافعي والزيات، وكان له معهم صولات وجولات، وقد ألفخمسة دواوين شعرية في نحو خمسة عشر جزءاً من الشعر العمودي المقفى، فيأغراض الشعر المختلفة . وقد طبع من هذه الدواوين:
1) ديوان البقاياالجزء الأول، وهو في عدة أغراض شعرية، ولكن يغلب عليه الطابع الصوفي، وشعرالزهد والتأمل، وما زال الجزء الثاني منه مخطوطا .
2) ديوانالمثاني الجزئين الأول والثاني، وهو في شعر الحكمة، إذ كل بيتين منه وحدةموضوعية قائمة بذاتها، تدل على معنى وضعت له، وما زال الجزء الثالث مخطوطا.
بقي من دواوين الشاعر:
3) هشيم المحتظر .
4) الحصائد .
ويحتويانعلى شعر الشيخ في صدر شبابه، في شتى الأغراض والموضوعات، ففيهما الشعرالديني والاجتماعي وشعر الشباب، وقد نشرت بعض قصائدهما في مجلة أبولووغيرها، وقد رجع الشيخ رحمه الله عن بعض ما قاله فيهما، وأمر أن يلحق ماتركه فيهما من شعر وما تناثر من شعره في الأوراق، ما كان من باب الزهدوالتصوف إلى البقايا، وما كان من المثاني إلى المثاني، وما كان من شعره منباب الوجد والمنازلات الروحية يجمع في ديوان خاص سماه:
5) لحظات التجلي .
وقدكان للشاعر حلقة شعرية إسلامية ألفها من كبار الشعراء الإسلاميين منهم:الدكتور حسن جاد، والأستاذ قاسم مظهر، والأستاذ محمود الماحي، والأستاذعبد الله شمس الدين، والدكتور سعد ظلام، والأستاذ ضيف الله، والأستاذالربيع الغزالي، والأستاذ شاور ربيع، والأستاذ محمد التهامي، والأستاذأحمد عبد الخالق، واللواء رائف المعري، وغيرهم .
كما أن للشيخ مقالاتأدبية ونقد أدبي رائق في مجلة أبولو، والفجر، والنهضة الفكرية، لعل منأهمها ما كتبه في نقد الأستاذ ( أبي حديد ) في الشعر الحر أو المرسل، ولاننس ما انتقد به الزيات في سلسلة مقالاته ( مشاغبات الأسبوع ) التي نشرتهاله جريدة الإخوان لعهدها الأول سنة 1932 م .
وقد توسعت في بحثي (الإمام محمد زكي إبراهيم شاعراً).
وفاته:
رحمالله شيخنا، كان المسجد بيته الذي لم يبرحه، ومدرسته ومضيفته وساحته، محطرحال كل من زاره ممن عرف قدره من العلماء والرؤساء والأمراء .
ثُمَّكان المسجد مجاوراً لمدفنه، فقد انتقل إلى رحمة الله الساعة الثالثةتماماً من فجر يوم الأربعاء 16 من جمادى الآخرة 1419 هـ، الموافق 7 منأكتوبر 1998 م بعد حياة حافلة استمرت نحو قرن من الزمان في الدعوة إلىالله، على هدى وبصيرة، ودفن مع أبيه وجدّه بجوار مسجد مشايخ العشيرةالمحمدية بقايتباي القاهرة .
رحم الله تعالى شيخنا الإمام محمد زكيإبراهيم، وألحقنا به على الإيمان، ورحم الله أشياخنا جميعاً، ورحم الله منسبقنا من إخواننا إلى الله .
نقل بالامانة للافادة